ورقة فكرية

أ. محمد عبد الله الغبشاوي
(ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين) الوصف دوماً هو نوع من الحكم الصادر على مَنْ نَصف. فحين نقول هذه عادة ضارة أو نافعة فنحن نلحق حكماً بالعادة المعروضة علينا. والحكم أو الوصف الذي نطلقه هو ناتج عن مرجعية ثقافية معينة. فكل إنسان في الحقيقة ممثل لثقافة ساهمت في صياغته وتكوينه، وهذه الثقافة هي التي تنيبه عنها في إطلاق الأوصاف وإصدار الأحكام. وعليه فأنت حين تقول: هذه عادة ضارة أو نافعة، أو تقول هذا رأيي أو هذا حكمي، فالحق أنك تنيب نفسك عن الثقافة التي صاغتك وصبغت رؤاك ومداركك لتصدر ما تتوهم أنه أحكامك وأوصافك.
والحكم على الأشياء -على ما يقول المناطقة- فرع من تصورنا لها، وتصورنا للأشياء ناتج بالضرورة عن النظرية المعرفية الكلية التي تشبعت بها الثقافة التي صاغتنا وصنعت رؤانا وتوجهاتنا وقيمنا ومثلنا ونماذجنا المقتداة وصور سلوكنا وكل الفرعيات والنواتج المصنفة في حيز الثقافة.
وإن كانت الثقافة ناتجاً مباشراً للنظرية المعرفية الكلية، فحري بنا أن نحدد عن أي نظرية معرفية نَرِدُ في تقويمنا لعاداتنا وتصورنا لها وحكمنا النهائي الذي نصدره عليها. وقد قال مالك بن نبي في كتابه (مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي): "إن هناك إجابتان فقط لملء الفراغ الكوني، وهما الفكرة الغربية والفكرة الإسلامية". وأرانا بعد نصف قرن من الزمان من إصدار مالك بن نبي رحمه الله لتلك المقولات أرانا نؤمن على ما يقول، على أقل تقدير في الساحة الحضارية التي تقلنا إن لم يكن على الساحات كلها على الإطلاق.
وإلحاقاً لذلك نعود فنقول: إن القيم والمعايير التي نضبط ونزن بها النافع والضار من العادات عموماً وعاداتنا على وجه الخصوص يلزم أن تكون واحداً من اثنتين: إسلامية أو غربية.
والسؤال الذي يلح هذا المقال في التركيز عليه هو: عن أية معايير وقيم نصدر في ضبط النافع والضار من عاداتنا؟ وأية إطار معرفي كلي يحيط بتلك المعايير والقيم: الغرب هو أم الإسلام؟ ومن هنا فالقضية المطروحة في هذا المقال ليست العادات ضارة كانت أو نافعة. وليس ختان الإناث سنياً كان أو بدعياً، وإنما النظريات المعرفية الكلية والمرجعيات الأم التي أطرت تلك القيم والمعايير المحكمة في عاداتنا والتي جعلنا من ختان الإناث مثالاً مجسداً لإسقاطاتها وتداعياتها.
أية لحظة تاريخية تظلنا؟
قبل عامين وقليل سلخ الغرب قرناً آخر من تاريخه الميلادي، وألزم بني الإنسان كلهم بأن يحتفلوا بانسلاخ ذلك القرن. وفي السنوات الأخيرة من ذلك القرن دارت مطارحات فكرية أكاديمية وغير أكاديمية في الرحاب الغربية قُيِّضَ لي أن أتابع نزراً منها. وخلاصة ما دار في تلك المطارحات أن القرن التاسع عشر كان قرناً أوروبياً من حيث الإنجاز الغالب ومن حيث السيادة والغلبة في أرجاء المعمورة سياسية أو اقتصادية أو ثقافية. أما القرن العشرون فمن نهاية عقده الثاني كانت إمارات الشيخوخة وحقائقها بادية في الإمبراطوريات الأوربية. كما كانت معالم الأزمات واضحة فيما قام وتجسد في الحرب العالمية الأولى ومؤتمرات صلحها التي غبنت قبيلاً كبيراً من العالم الأوروبي وأدت إلى عديد من النكبات والفجائع التي منيت بها المثل الديمقراطية بداية بالثورة البلشفية ومروراً بانتصارات الفاشية والنازية واللتان سادتا وسيطرتا عبر آليات ديمقراطية!
وكان من نتيجة ذلك أن دب الضعف والوهن في أرجاء أوروبا وبرزت القوة الأمريكية من خلال ذلك كحقيقة كبرى في العالم وفي الساحة الأوربية بوجه أخص. وبحكم سلامة الجسم الأمريكي من الأدواء والأمراض الأوربية تسنى له من الإنجاز والغلبة والسيادة ما لم يتسنى للعالم الأوروبي. وتدرجت أمريكا في إزاحة الهيمنة الأوروبية رويداُ رويداً إلى أن تحققت السيادة الأمريكية المطلقة مما أدى إلى تسليم أوروبا التلقائي بذلك من خلال قبولها بمشروع مارشال في استنقاذها من شبح الفقر والكساد اللذان ساداها بعد الحرب العالمية الثانية.
ماذا يعنينا هذا السرد؟ يعنينا أن القرن العشرين ومن بداياته الأولى أفاقت أمريكا فيه إلى قوتها التي ترشحها لأن تكون ذات كلمة شبه نهائية في الحيز الأوروبي، ناهيك عما وراءه. وقليلاً قليلاً أخذت أمريكا في طبع القرن العشرين بطابعها حتى إذا حلّت عقوده الأخيرة سقط حائط برلين وبسقوطه سقط الاتحاد السوفيتي ومعسكره الشرقي، ومع غروب شمس الثنائية القطبية أفاق العالم على حقيقة قطبية أحادية هي القطبية الأمريكية.
ومن هنا فالسجال الفكري الأكاديمي وغيره الذي أشرنا إليه اتصل بالصفة الأمريكية للقرن العشرين وأنه القرن الأمريكي أو قرن أمريكا. وذلك السجال لا يهمنا من ناحية أننا لسنا طرفاً أصيلاً فيه! كلا بل ولا طرفاً ثانوياً يحق له الإدلاء بدلوه. ذلك أننا ومنذ ما يناهز خمسة قرون صرنا نشكل مجرد هوامش باهتة على صفحات الفعل التاريخي. وكنا في كثير من الأحيان مجرد متفرجين حتى في الأحداث التي تصنع تاريخنا نحن وتوجهه.
ومن هنا فاللحظة التاريخية التي تظلنا هي لحظة أمريكا صناعة ونتاجاً وإفرازاً وفعلاً. ومن هنا فنحن لا نعيش (عصرنا) كما نتشدق بذلك ونتطاول، بل نعيش العصر الأمريكي. وعليه فاللحظة التاريخية التي نجتمع فيها ونحن نتداول شأناً من شئوننا الصميمة مثل(القيم والمعايير في ضبط العادات الضارة: ختان الإناث مثالاً) هذه اللحظة التاريخية لحظة أمريكية بلا أدنى ريب.
وهي لحظة تلقي بظلالها على كل ما حولها وتساهم في تشكيل الكثير مما يحدث في عالمنا. والشواهد على ذلك أكثر من أن تحصى.
حديث عن الحاكمية الحضارية الغربية (الأمريكية):
إن الحديث عن اللحظة التاريخية المظلة والعصر السائد. وكل ذلك أمريكي لا شية فيه. يقودنا بالضرورة للحديث عن الحاكمية الحضارية وعن الغربية منها بوجه أخص. فنحن نعلم أنه وعلى مختلف الأعصر التاريخية سادت حضارات معينة أملت كلمتها وأنفذت إرادتها على من هو دونها في الإنجاز الحضاري والقوة المتأتية عن ذلك. وذلك الإملاء وما اقترن به من إنفاذ إرادة وما ارتبط بهما من تقليد المغلوب للغالب على ما أذاعه العلامة عبد الرحمن بن خلدون. جماع ذلك هو ما تصطلح عليه بالحاكمية الحضارية.
على أن الحاكمية الحضارية الغربية الأمريكية تميّزت بأمرين، أحدهما عام والآخر خاص. أما العام فهو أنها تعدت في املاءاتها وإنفاذ إراداتها إلى صميم خاص الخاص الذي ما اعتادت سابقاتها من الحضارات أن تمسه أو تقترب منه. حتى فجائعها الأخلاقية وانتكاساتها القيمية المتمثلة في السحاق واللواط سلكته في منظومة ما أسمته (بحقوق الإنسان) وجعلته من (القيم العالمية) التي يذعن لها بنو البشر بالقبول والاستبشار بل وربما يلزم مقتضاه بإدانة منظومة الزواج والأسرة، بل والحلال والحرام في رحابنا واستئصال كل ذلك من جذوره إذا تمادى في الإذعان والاستسلام الذي صار ديدناً له وعادة.
وأما الأمر الخاص الذي ننوه به فهو أمر (الكراهية الثقافية) المسيطر على الوعي الباطن للذهنية الغربية والذي شكل ركناً ركيناً في كل الأفعال الصادرة عن الذات الغربية تجاه الآخر المسلم العربي تحديداً فيما أبانه وفصّله إدوارد سعيد في كتابيه الحقيقين بالاهتمام الاستشراق، وتغطية الإسلام.
هذا والكراهية الثقافية المنوه بها ليست بمشكل أوحد في الأفعال الغربية المصوغة تجاهنا، وإنما هناك أيضاً مركب الاحتقار الذي يشكل ناتجاً عرضياً -ربما- لتلك الكراهية الثقافية ولكنه مكون أساس ومشكل في ميزان النظر لكل ما يتصل بنا، بدءً بشريعتنا، مروراً بختاننا ونهاية بطريقة ذبحنا. ماذا أريد أن أقول؟ أريد أن أقول: ربما كانت النظرة الغربية للثقافات الصينية أو الهندية أو اليابانية أو الأفريقية أو الأمريكية اللاتينية. ربما كانت في كل ذلك نظرة حيادية استقلالية موضوعية. ولكن إذا اتصل الأمر بالإسلام أو شكلاً من أشكاله؛ فهي نظرة لا تستطيع التخلي عن تحيزاتها وكراهيتها الثقافية وهي مشبعة إلى حد كبير بمركب ذلك الاحتقار المشار إليه قبل قليل.
التقاء مشروعين وتعانقهما:
يضاف إلى ما سبق من الحقائق النظرية حقيقة مشروعين متصلي الأداء في حيزنا الإسلامي عموماً والعربي على وجه الخصوص، وهما المشروع الإمبريالي الصليبي وصنوه الناتج عنه، أعني المشروع الصهيوني، وكلاهما له طموحاته وأغراضه الممتدة في المنطقة وما يلزم من ذلك من مقتضى التفكيك لكل ما يتصل بإنسان هذا المكان.
والمشرع الإمبريالي الصليبي ربما بدا للكثيرين في حيز الماضي الذي لا صلة له بالحاضر، ولا نريد أن ننزلق إلى أوحال الجدل في زمان ومكان لا يسمحان بالاسترسال في هذا. ولكنّا نتوقف عند المشروع الصهيوني وغني عن الذكر أننا نشهد لحظات تشييده الأخيرة. وقد احتفلت إسرائيل قبل أربع سنين بيوبيلها الذهبي أي بلوغ الدولة -وليس المشروع نفسه- عامها الخمسين. ولم تحتفل إسرائيل وحدها وإنما احتفل الغرب كله بذلك الحدث. أشير إلى ذلك مجرد إشارات وأخلص إلى النتائج المتصلة به وهي:
أولاً: أن مرحلة التشييد الأخيرة للدولة تقتضي تصعيد الضياع والهوان والضعة في الكيانات المحيطة بإسرائيل وأن مقتضى ذلك إعلان الحرب الإبادية الاستئصالية على الهوية ومكوناتها، وذلك بالضرورة يعني الإجهاز على الأعمدة والأركان الثقافية لإنسان هذا المكان وزرع الريبة والشك في كل مكون من مكوناته وكل قيمة من قيمه وكل جزئية من تاريخه وحضارته. وجماع ذلك إذا تم، مثول إنسان هلامي مشوه يكون قنطرة العبور للنصر الإسرائيلي النهائي.
فالكيانات الإنسانية المفرغة من مكوناتها الأم هي الكتائب الأولى المحققة لنصر إسرائيل وسيادتها المطلقة في المنطقة.
ثانياً: أن إسرائيل هي المستوعب الأكبر لتجربة الغرب التاريخية ودروسه التي استخلصها منها وخاصة فيما يتصل بحيزنا وإنساننا.
ويأتي على رأس تلك الدروس الإجهاض الدائم للمشروعات النهضوية إما بالاغتيال المباشر المتمثل في الإجهاض العملي والإجهاز الفعلي على تلك المشروعات كما حدث مع مشروع محمد علي باشا قديماً ومشروع العراق حديثاً. أو بالاغتيال غير المباشر بمعارك الإلهاء عن الحقائق والوقائع والمعالجات الأم الممهدة لطريق تشييدها وإقامتها.
ثالثاً: وهذا أخطر النتائج، التمادي والتجديد في الدعاوى المتصلة بدورة نقض المسلمات -كما نصطلح عليها- وهي دورة متجددة للمتأمل المتابع لها، فنحن الأمة الوحيدة التي تنتحل المعارك الفكرية والمخاضات التاريخية الاجتماعية الخاصة بغالبيتها فيما ظهر في الجدلية المزيفة في معركة الكنيسة والدولة. أو العلم والدين أو معارك الدستور والديمقراطية وحقوق الإنسان والجندر وما إليه.
وأخصائيو الصراع الفكري بخبراتهم المتراكمة لا يخطئون في تحديد التخوم الجديدة التي توجه إليها معارك الإلهاء الجديدة القديمة في دور نقض المسلمات. وفي ركاب هذا تأتي جولات النقض المتجدد للمسلمات الثقافية، ومما نعاصره هذه الأيام معركة المظهر العام، والأمر فيها ليس أمر كشف الرأس أو تغطيته، وإنما الأمر الثقافي الكامن وراء ذلك الكشف أو تلك التغطية وهل هو إسلامي أم غربي صهيوصليبي؟!
والهدف النهائي في المعارك الثقافية التي نعاصرها هو ما أبانه العلامة محمد شاكر في مقدمته التي كتبها لكتاب الظاهرة القرآنية لمالك بن نبي حيث يقول: "لم يكن غرض العدو أن يقارع الثقافة بثقافة، أو أن ينازل ضلالاً بهدى، أو أن يصارع باطلاً بحق، أو أن يمحو أسباب ضعف بأسباب قوة، بل كان غرضه الأول والأخير أن يترك في ميدان الثقافة في العالم الإسلامي جرحى وصرعى لا تقوم لهم قائمة، وينصب في أرجائه عقولاً لا تدرك إلاّ ما يريد لها هو أن تدرك، ولا تعرف إلاّ ما يريد لها هو أن تعرف، فكانت جرائمه في تحطيم أعظم ثقافة إنسانية عُرفت إلى هذا اليوم، كجرائمه في تحطيم الدول وإعجازها مثلاً بمثل. وقد كان ما أراد الله أن يكون. وظفر العدو فينا بما كان يبغي ويريد" [ص 12]، هذا وقد كانت هناك جدليات مشهورة عند أسلافنا من علماء الأصول، وخصوصاً ما اتصل بالتحسين والتقبيح، هل المعتبر منهما الشرعي أم العقلي. والمسألة الآن ليست في تلك المقابلة، فعلى زماننا هذه مسألة تحسين وتقبيح ثقافي وهل هو إسلامي أم غربي أمريكي.
الوجوه النهائية للثقافة وحقيقة الامتثال لها:
روح الثقافة دوماً هو دينها، فكل ثقافة إنما نشأت وترعرعت حول دين ما، وتشكلاتها المختلفة وصور تعبيرها المتنوعة هي نواتج تلقائية أو عرضية لذلك الدين، وعاداتها وتقاليدها وصور سلوكها كلها تدور بطريق أو آخر حول الدين.
ومن هنا فالثقافة هي الوجه الآخر للدين، ومحاكمة جزئية منها هو محاكمة للدين، كما وأن الامتثال لجزئية منها مهما صغرت هي امتثال لدين، وهي من ثم إخراج من دين أو إدخال في دين. ومن النظر غير الموضوعي ولا المنطقي تصنيف الأمور الثقافية باعتبار الجزئية أو باعتبار الصغر والكبر. فالأمر ليس كذلك، وإنما الجزئيات الثقافية هي صورة مصغرة للنسق الثقافي الأم، فيها كل حقائقه، وهي إشارة بدء في تداعياته أو خطوة متسلسلة فيها. ويوشك أن تكون الدينونة للجزئية -والتي هي دينونة للثقافة التي نبعت منها وانتمت إليها يوشك أن تكون دينونة للكليات العقدية الفلسفية والنظرية المعرفية التي تشكل رحمهما. ومن هنا فالمناداة بجزئية ثقافية ما هي إلاّ إطلاق الجزء وإرادة الكل.
والحاجب لنا عن إبصار ذلك هي العقلية التجزيئية التي تشكل ركناً ركيناً ومكوناً أول في إنسان عصر الانحطاط. فنحن نتناول الظواهر كجزئيات منفصلة عن عضها البعض وليس كظواهر مكملة لبعضها البعض ونعزل هذه (الجزئيات) عن بعضها وذلك العزل هو الذي يبقيها لنا في شكل جزئيات جامدة مستقلة سواء في شأنها أو في نتاجها النهائي أو هكذا نتوهمها! ولو جربنا أن نرصف ما يتراءى لنا جزئيات إلى جانب بعضه لخلصنا إلى صورة الإطار الكلي الجامع ومكوناته الجزئية.
لصاحب هذا المقال رؤية أدت به إليها تجاربه -فهو يرى في حاضر الصراعات الفكرية في الغرب مستقبل ما سيجري في لبنان والمغرب ومصر مثلاً. وفي حاضر تلك الصراعات الفكرية في لبنان والمغرب ومصر مستقبل ما سيجري في العراق واليمن والسودان. ومن هذه الرؤية أتعرف على مستقبل الصراعات الفكرية وغير الفكرية في حيزنا العام والخاص. واستهداءً بهذا أستعين بمثال مصري يعيننا على تبصر ما عندنا بالسودان ومستقبله ومكونات ذلك المستقبل الذي سيظلنا إذا امتد بنا العمر.
فقد عُرِفت الدكتورة نوال السعداوي بمحاربة الختان الفرعوني في مصر، وكانت أشرس المقاتلات في ذلك الميدان وأكثرهن استبسالاً، وامتدت بها الأيام لتحارب الختان في أوساط الإناث على إطلاقه، سنياً كان أو فرعونياً على أنها في هذه الأيام ظفرت بأحبولة إلهاء جديدة على ذمة ما ساقته لنا مجلة الأهرام العربي (العدد 225 - السبت 5 ذو القعدة 1422 هـ - يناير 2002 م). وتبين أن المعركة هذه المرة لا تخوضها السيدة نوال وحدها وإنما ضمت إليها جيشاً من النساء تجمعن في المؤتمر الدولي السادس للمرأة العربية. ففي (بحث) بقلم الدكتورة سهام عبد السلام أسمته بحثاً طبياً حمل عنوان: (الختان نظرة نقدية للحجج الطبية والفقهية السائدة) أشارت من خلاله إلى أن الختان عادة تمارس على الأطفال من الجنسين وهي عملية صدمية أليمة تحرم الطفل أو الطفلة من جزء مهم حساس ذي وظيفة، فجميع أطفال الجنس البشري يولدون بأعضائهم وأعضائهن الجنسية مكتملة، ولم يحدث أن ولد طفل أو طفلة بدون هذه الأعضاء ورغم قيام عدد من النساء والرجال المؤيدين والمؤيدات لحقوق الإنسان بحملة ضد ختان الإناث، إلاّ أن ختان الذكور لم يحظ بحركة فعالة مماثلة لعدم معرفتهم بأهمية (غلفة) الذكر لاعتقادهم بأن ختان الذكور مطلب ديني!
فجمع هذه الدعوى ورصفها إلى جانب المحاربة لختان الإناث على إطلاقه -وإن كان سنياً- يضيف بعداً جديداً لا يتسنى إبصاره أو إدراكه بالفصل بينهما، والحقيقة الرابضة وراء ذلك كله أن ثمّة مثال هناك مسلّم بعصمته المطلقة وكماله التام، هو: الغرب. وأن خصوصياته السلوكية والاجتماعية والخلقية ينبغي إنزالها منزل الإنساني العالمي العام الذي لا يقبل من أحد من بني الإنسان إلاّ الدينونة الخالصة له والتعبد الدائم في محرابه. لا يستثنى من ذلك أحد من بني البشر. وعلى نسق عالم الاتقاد المتزمت لا تقبل أدنى مساءلة أو استفسار وإنما هو الحال الذي يشبه إلغاء العقول.
وتزيد الصورة وضوحاً بالانتباه إلى قيم وسلوكيات أخرى ينادى بها في صمت وعمل دائب، فهناك التوزيع المجاني لموانع الحمل من عقاقير وعوازل وغيرهما، وهناك حرب التمقيت الشعواء على الزواج المبكر، وهناك الاختلاط الطائش في المعاهد التعليمية ومنظومة قيمه المصاحبة له -مهما حلنا ومهما حاولنا- وهناك المواد الفكرية المسمومة وهناك الأفلام الزرقاء وأدبياتها المتسللة. وهناك التسويق المسعور للسالب من القيم الغربية -غالباً- فإذا وضعت الدعوة إلى تحريم الختان السني في وسط هذا فسيتبين أن هذا دفع مجتمعنا إلى نفس المساق الذي ساق إليه المجتمع الغربي نفسه حتى آل حاله إلى ما آل إليه. وما لا يخفى على ذوي الفطن أن الإلزام لأمتنا ببعض المنظومة الظاهر يعني حشدها للالتزام بالمستتر ومن ثم فهو وضع لقبيلنا في طريق واضح المعالم بيّن النهايات!
ونعود فنذكر ثانية بأن المحاكمة إلى جزئية ثقافية هو محاكمة إلى منظومة كلية بطريق الانزلاق المتدرج في بقية الجزئيات وبحكم قانون التداعي.
وطال الزمن أو قصر سيؤدي ذلك نهاية إلى الذوبان والانصهار التام في الثقافة السالبة. على أن ذلك ينطبق غالباً على الثقافات محدودة الدائرة الحضارية بحكم الحجم الصغير والإمكان المحدود للمقاومة. ولكن الحال يختلف كثيراً بالنسبة لدائرة حضارية عريضة كالدائرة الإسلامية الممتدة من طنجة إلى جاكرتا، وهذا بعد لا يستهان به ولكن البعد الأقوى والأهم هو بعد المرجعيات المؤسسة والأصول الموثقة التي تستعصي على التزييف والتبديل.
فحالة الموازين والقيم والمعايير هنا أكثر ما تكون تماسكاً وتلألؤاً. والقائمون على شئون الصراع الفكري وإدارته في مناطقنا من أخبر الناس وأدراهم بهذه القلاع المستعصية على الاقتحام. على أن قدراً كبيراً من طموحاتهم الاستراتيجية متحقق بشن هذه المعارك وتسعير هذه النيران ولكن أهدافهم محسوبة محددة وهي متصلة بأمرين متلازمين، أولاهما: تشديد الحصار على مشروع النهضة المرتقب -والذي لن يتم إلا على قاعدة إسلامية- بالإلهاء عن المعارك المزيّفة. وثانيهما: التمكين للمشروع الصهيوصليبي المتجسد في إسرائيل بمحاولات التفكيك للهوية وتقويض الثقافة والذي ينتج حالة من انعدام الوعي والرؤية يحتاجهما المشروع الصهيوني كثيراً في مراحل تشييده الأخيرة هذه كما نبهنا من قبل!
محنة المكان المهدر:
نحن في تجاربنا التاريخية الثرة مررنا في مسيرتنا الإحيائية بحقائق ووقائع التجديد التي كانت تنثال بركاتها على الأمة في دورات عديدة بحكم المبدأ القرآني الخالد (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر) فالخيرية على ما استوعب ضمير الأمة مشروطة بالالتزام المتجدد بمسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمسلّمة المتخلفة عن هذا أن ثمّة موازين ومعايير وقيم واضحة بينة يرجع إليها حين وقوع أشكال حول واقعة من الوقائع أو سلوكية من السلوكيات أو ظاهرة من الظواهر الطارئة على الأمة. وأن هذه الموازين والمعايير والقيم ملزمة إلزاماً دائماً ما زعمت هذه الأمة وادعت أنها مسلمة لربها مؤمنة بكتابه مصدقة برسوله (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدون في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً).
وجميع حركات الإحياء والتجديد في العالم الإسلامي قامت على ذلك المبدأ الخالد. والثمار التي حققتها تلكم الحركات وجنتها هذه الأمة هو الذي حفظ اتصال حلقاتها ووحدة منهجها وثبت قواعد وجودها العقدي المبدئي وجعلها تسلم في واعيتها الباطنة بالولاء المطلق لذلك المعين الذي لا ينضب: كتاب الله وسنة رسوله.
ومن أقرب الحركات الإحيائية التجديدية ذكراً حركة الإمام محمد بن عبد الوهاب وحركة الإمام محمد أحمد المهدي. فبغض النظر عن أوجه القصور وأنواع النقد الموجهة إليهما إلا أنهما حركتان نفحتا هذه الأمة بروح جديد وجليا لها مثالها من جديد. وفي صدد ما نحن عاكفون على معالجته في مسألة العادات الضارة وموازين ضبطها حققت تلكما الحركتان نجاحات مميزة وبأقل الخسائر المتصورة. وفي هاتين الحركتين لا يخطئنا أن نلمس الأثر المجمل المتخلف عنهما فهما قد كرستا لأمة الإسلام حقائق مرجعيتهما الأم وأن الحقيقة المركزية الأولى التي يجب أن يعيها ضمير هذه الأمة هي هذه المرجعية وأنه إن كان ثمة معصومية وثمة قدسية فينبغي توفيرهما لهذه المرجعية فهي التي تعلو ولا يعلى عليها -وهي الحاكمة المطلقة التي يحتكم إليها. وأن هذه المرجعية هي العاصمة الحقيقية التي تعتصم بها الأمة في كل ما يعروها من قضايا ويستجد عليها من وقائع ويطرأ عليها من أزمات.
وما تحقق من خلال منهج النظر ذاك الذي أُلزِم ضمير الأمة به تلقائياً إسقاط شرعية عدد من الظواهر الطارئة المضرة أو على أقل تقدير زلزلة أركان وجودها وجعلها محل تدقيق واختبار. وقد أضرب مثالاً بنجاحات الحركة المهدوية في السودان فما تمَ من إبطال لعادات النواح على الميت والختان الفرعوني والتقديس للأموات والإبطال للسعوط والدخان وغير ذلك من الكثير الذي نددت به المهدوية أو شجبته أو أوجدت لنقضه أرضية مرجعية يتذاكرها الناس ويتحاكمون إليها متى ما طرأت عليهم مثل هذه الظواهر أو حلّت مثل هذه السلوكيات. أنت تلمس في الحركة المهدوية محاولة لإعادة صياغة المجتمع المسلم على السنن الأولى. ومن خلال منشورات المهدي ومقارنتها بالوقائع التاريخية رأينا سعيه لإبطال ما أرته مرجعيته أنه ضار من العادات والسلوكيات وقد سعى المهدي لإلزام أنصاره خاصة والمجتمع السوداني عامة بمقتضى ذلك. وعديد من مجتمعات الأنصار انعتقت من العادات الضار والتزمت به في خويصة نفسها على أقل تقدير بالميزان المهدوي الذي هو المرجعية الأم المجمع عليها.
وما أعنيه من كل ذلك أن ثمة إمكان تاريخي متجدد من خلال المثال المهدوي وما سبقه أو تلاه. وفي ذلك الإمكان تكمن المرجعية المؤسسة المفصلة التي تحفظ على هذه الأمة توازنها ووجودها بين الأمم.
لكي لا يخل بمعايير النظر المرجعي:
ثمة روح استهتار وتلاعب بالنصوص الشرعية ومنهج تفسيرها وتأويلها يحاول بثه ثلة من المتأثرين بالانحيازات الغربية ويرمون من ورائه إلى الإخلال والتقويض بقواعد النظر الشرعي. ومع القدسيات الكثيرة والمحرمات العديدة والتقاليد الراسخة التي يلزم منهج النظر الغربي الذي تأتم به تلك الثلل إلى أننا بحالة إهدار تام للحمى حينما يتصل الأمر بالإسلام ويكون المنهج هو الهوى المحض والذوق الخاص والتحيزات المسبقة وإملاءاتها.
وتلك الثلل استطاعت من خلال ذلك الاستهتار والتلاعب وأيضاً من خلال طرائق التهويل والتبشيع الإعلامي والنفسي أن يستميلوا عددا من الفقهاء إلى صفوفهم مستغلين فيهم الغفلة تارة أو روح المجاراة أو تفادي الصدام والمجابهة أو كل ذلك مجتمعاً.
إنه ليس من قصد هذا المقال أن يَتعرض لغير الحقائق والوقائع الفكرية المتصلة بمسألة العادات الضارة. كما أن صاحبها ليس من أهل الفن فيما يتصل بالجوانب الشرعية. ولكن ثمة ما لا يسع الجهل به في الشريعة الإسلامية، وأيضاً ثمة ما يتصل بالذب عن مرجعيتها وهو أمر من صميم العمل الفكري.
وبادئ ذي بدء نذكر بالنظر المقاصدي الذي يشكل فلسفة وروح الشريعة المعصومة. فنحن على ما نعلم ونؤمن ونعتقد ما أنزلت هذه الشريعة إلا لحفظ الضروريات الخمس:
(1) الدين (2) النفس (3) العقل (4) العرض (5) المال.
فمدار النظر المقاصدي حين الضبط لظاهرة من الظواهر أو واقعة من الوقائع أن يتم التملي والتحليل لها ليعرف مدى توافقها أو تضادها مع الضروريات الخمس. وبالطبع فإن ذلك النظر المقاصدي يستهدي بالنصوص الشرعية وبالمصادر المختلفة للتشريع الإسلامي ويأتي في مقدمة ذلك كتاب الله وسنة رسوله.
وما ينبئ به النظر المقصدي أيضاً في العموميات المتصلة بالرسول صلى اله عليه وسلم أنه وكما أنبأنا ربنا عز وجل (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) فكل جزئية تشريعية أتى بها المعصوم صلى الله عليه وسلم متضمنة بالضرورة لصفتي الرأفة والرحمة الحقيقيتين بالاعتبار لا ما تعتريهما الأهواء أو تتغلب بهما الأغراض والأزمات والعصور.
وفي أدبيات العادات الضارة ومحاربتها ملمحان يلحان بالحضور وهما من ثم يلزمان بالمراجعة. أما أولاهما: فهو محاولة إبطال الختان الشرعي بإبطال النصوص السنية. ومناهج النظر وأساليب الفحص لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم معروفة لأهل الفن. والسياق الذي تورده أدبيات محاربة العادات الضارة مجافي لذلك المنهج ومغفل لتلك الأساليب. فمن البدهيات المعروفة في علوم السنة والحديث الفروق بين ضعف السند وضعف المتن، وأن الأول مقصود به سلسلة الرواة ومدى التوثيق لهم وأما ضعف المتن فالمقصود به المعنى المتضمن في الحديث وهو ما قد يتعرض للإثبات في رواية -أي سلسلة سند معينة- وقد يتعرض للنفي أو التشكيك في سلسلة سند آخر. ثم إن هناك أسلوب التعضيد وهو ورود روايات عديدة -أي عدة أسانيد- يقوي بعضها البعض فيعزز من إلزامية النص السني.
وأما ثاني الملمحين فهو أسلوب التهويل في تعضيد مذهب الإبطال لختان الإناث الشرعي بدعوى الخطر الصحي والنفسي بمزاعم ودعاوى طويلة وهي ليست موضع اتفاق بين أهل الفن، وسقوط الإجماع عليها في ذلك الجانب يهدر من قيمة اعتبارها الشرعي كثيراً.
هذا ونحن نوقن بسنية الختان ونوقن بأن المعصوم صلى الله عليه وسلم ما كان ليقر أمراً تنبني عليه كل هذه المخاطر والمضار فهو الذي (لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى). كما نوقن بأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما انتقل إلى الرفيق الأعلى حتى بين لنا ما نأتي وما ندع في كل ما يتصل بمدرك (الحياة) الحقيق بالاعتبار والوارد في قوله عز وجل (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم).
وعليه فالمعالجات الواردة في أدبيات العادات الضارة فيما اتصل بسنة المعصوم صلى الله عليه وسلم محل نظر وتوقف كثير. ولا تسليم إطلاقاً بمناهجها وأساليب نظرها وما هي من العلمية والحيدة أو الموضوعية في شيء. وواضح عليها طابع التحيزات المسبقة التي تحكم نظر حامليها. وقد استرسلُ فأقول: "الفقه الوارد في هذه الأدبيات إما مترجم وإما نظر وفكر مأسور مستهجن وحقاً كما قال ربنا عز وجل: (لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين).
وأما الفقهاء الذين يُستشهد بهم في هذه الأدبيات فهم أهل للتجلة والإكرام ونحن وإن سلمنا بمرجعيتهم فهناك عديد من المرجعيات التي لا توافقهم في مذاهب النظر والاستدلال والاستنتاج وهي مرجعيات معتبرة أيضاً.
ثم إنّ درجة المرجعية ـ إن قامت وتحققت ـ لا تعني المعصومة بحال فالخطأ والسهو وسوء التأويل وارد على كل المرجعيات بلا استثناء وهما علا مقامها وارتفعت رتبتها.
وعلى التسليم بكل ذلك فإنّ روح المنهج الشرعي عندنا قائمة على معرفة الرجال بالحق لا معرفة الحق بالرجال.
إعادة الحديث إلى تخومه الأولى:
مرة ثانية وأخيرة أؤكد على موضوع هذا المقال وهو مدرك المرجعية الأم وأنها مرجعية قائمة على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأنها العاصمة الدائمة لأمة الإسلام من كل زيغ وضلال ليس ذلك فحسب بل هي القمينة بإخراج هذه الأمة وبني الإنسانية جمعاء من الظلمات إلى النور وهي الحقيقة بإعادة أمة الإسلام إلى حلبة التاريخ من جديد.
والأمر الجدير بالاعتبار دوماً هو تثبيت هذه المرجعية وتثبيت وحدانيتها ونفي الشريك عنها غرباً كان أو شرقاً أو البشرية جمعاء!
وأنّ كل مادون هذه المرجعية أمر ثانوي يتلوها ـ بمراحل طويلة ـ في الدرجة والاعتبار.
وأنه في هذه اللحظة التاريخية الأمريكية وفي ظلال انفراد المشروع الصليبي والصهيوني بعالم الإسلام علينا أن ننتبه لكل شاردة وواردة متصلة بأمر المرجعية وأن لا نفرط أم نستسلم أو نخور.
سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت استغفرك وأتوب إليك.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
 

 

 


إصدارة جديدة

 ختان الإناث الشرعي  رؤية طبية  

المؤلف:د ست البنات خالد

الصفحات:22 صفحة

عرض الكتاب»

 

جميع الحقوق  محفوظة الإ للنشر الدعوي مع الإشارة للمصدر  موقع منظمة أم عطية 2003  اتصل بنا  info@umatia.org

المشرف العام على الموقع  د . ست البنات خالد  السودان - الخرطوم